الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن قيل: فقد قال تعالى: {فِيما تَراضَيْتُمْ}، والإبراء لا يتوقف على تراضيهما.الجواب: أن الإبراء وإن كان على المذهب الصحيح، لا يتوقف على تراضيهما، فالهبة موقوفة على ذلك، والإبراء في أحد الوجهين لأصحابنا وإن لم يقف، فالمعلوم العرف أن ذلك يجري بتراضيهما، والمقصود بقوله: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، طيبة قلبها، وأن لا ينقص من أجرها شيئا والإبراء يصدر منها.وقال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، إلا إذا طابت نفسها، وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}.فهذا المشكل من هذه الآية، يعرف من المبين المحكم في الآية الأخرى.ويدل عليه أن اللّه تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ}.فجعل عند الطلاق شطر المفروض، وإذا تبين ذلك، فهذا الذي زيد، إن كان صداقا كان مفروضا، فإذا طلقها وقد فرض لها، فيجب أن يشطر ذلك، فإن اللّه حكم بتشطير نصف المفروض.قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ} الآية [25]:اعلم أن التعرض لإحدى الصفتين المتضادتين، والنزول عن كلام مطلق، يدل قطعا على أن التقيد المذكور مقصود، لتعلق الحكم عليه، وأنه لا يجوز إلغاؤه، نعم قد يجوز أن يذكر أحد الحالتين، والمسكوت عنه أولى بالحكم المذكور من المنطوق به، فيتعرض لإحدى الحالتين تنبيها على ما هو أول بالحكم من المذكور، ولو أطلق الحكم لأمكن استثناء المذكور: بيانه أنه تعالى، قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} إلى قوله: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا}.والقتل محرم عند زوال هذه الحالة لأنه لو قال: ولا تقتلوا أولادكم مطلقا، أو قال: ولا تقتلوا أولادكم حال غناكم، لأمكن أن يتوهم جواز ذلك حالة الشقاق والإملاق، لئلا يشقى المولود له في تربيته فقال: {لا تقتلوهنّ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} لعذر الإملاق، {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، فهذا يسمى التنبيه.ومثله قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافًا مُضاعَفَةً}، فحرم الربا، وإن كان له فيه النفع الكثير، فإذا لم يجوز لغرض عظيم، فتحريمه لما دونه أولى.وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ}، ليس أنه يتصور أن يقوم عليه برهان، ولكن المشركين قالوا لا نترك ديننا ودين آبائنا، فذم التقليد واتباع السلف وترك البرهان والإعراض عن الدليل.ففي أمثال ذلك يجوز تخصيص إحدى الحالتين، تنبيها على ما هو الأولى بالحكم المذكور من الحالة الأخرى.أما هاهنا فإنما تعرض لحالة الضرورة في جواز النكاح، فلا يقال حال عدم الحاجة أولى بجواز نكاح الأمة، والأمة في هذا المعنى أوفى من الحرة، فإذا تبين ذلك، فذكر حالة الحاجة تنبيه على جعل الحاجة علة الإباحة، فإذا لم توجد الحاجة تحرم، فإن الذي يفهم من ثبوت الحاجة، وأن ثبوته كان لأجلها، يعلم انتفاؤه عند عدم الحاجة، وهذا مقطوع به.وإنما ذكرنا هذه الأمثلة، وأجبنا عليها لأن الرازي لم ير لهذه الآية دلالة على ضد المذكور عند عدم الحاجة، ورأى أن ذكر الحاجة في إباحة النكاح، تنزل منزلة ذكر الإملاق والحاجة في تحريم القتل، ولم يجعل لهما مفهوما، وقد غلط من وجهين:أحدهما: أن كل ما استشهد به له مفهوم وفحوى، ولكنه من قبيل مفهوم الموافقة والتنبيه بالمذكور على مثله في غير المذكور، والقسم الآخر مفهوم المخالفة، وهو التنبيه بالمذكور على خلافه الذي لم يذكر، وهذان قسمان يعرفان لمحال الخطاب، ومواضع الكلام، ومواقع العلل والمعاني.والرازي ظن أن الأدلة في القسمين على ما عدا المذكور، فأبان من نفسه جهله بنوعي المفهوم وقال: وبينا ذلك في أصول الفقه، فظلم نفسه بالتصدي للتصنيف في الأصول، قبل معرفة هذه الأمور الجلية، كما ظلم نفسه بالتصنيف في معاني القرآن وأحكامه، قبل إحكام معانيه.فإذا ثبت ذلك، فيبقى هاهنا نظر، وهو أنه إن قال قائل: قد وردت ألفاظ عامة في النكاح مثل قوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} إلى قوله: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}، وادعى هذا المحتج به أن معناه: أو نكاح ما ملكت أيمانكم، وهذا غلط، فإن معناه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً}، لا يخشى فيه الجور، أو ما ملكت أيمانكم، فإن العدل في العدد فيه غير واجب أصلا، بل يبقى لهم التعلق بالعموم.وتعلق أيضا بقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ}.فزاد أن الاحتجاج بالعموم يقاوم الاحتجاج بالمفهوم، وهذا ركيك من القول، فإن ما احتجوا به من العمومات سيق للحرائر، ودل عليه سياق الآيات: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}.وقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ}، عنى به الحرائر، فإنه تعالى قال بعده بكلمات وتخلل فاصل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}.فدل أن المراد بالمحصنة في الآية الحرة، فإن الإحصان يطلق بمعنى الإسلام، ولا يحتمل هاهنا مع قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ}، مع قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.فذكروا أن المراد به التزويج، ولا يحتمل ها هنا، فإن المحصنات من النساء يعني المتزوجات في أقسام المحرمات، فإذا بطل ذلك، فلا يحتمل إلا معنى الحرة.وقد أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالمحصنات هاهنا الحرائر، ودل السياق عليه في ذكر نكاح الأمة، نعم قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ} ولم يقل: واللواتي أوتين الكتاب من قبلكم، فوقع الشرط في المؤمنات دون الكتابيات، فلا جرم، قال قائلون من أصحابنا: لو قدر على نكاح الكتابية دون نكاح المسلمة، فجائز له نكاح الأمة.ويلزم عليه على مذهب الشافعي رضي اللّه عنه جواز إدخال الأمة على الحرة الكتابية.وفيه خلل من وجه آخر، وهو استواء نكاح الكتابية والمسلمة في الأحكام كلها، وإذا كانت القدرة على نكاح المسلمة مانعة نكاح الأمة، فإذا لم يمتنع نكاح الأمة بالقدرة على نكاح الحرة الكتابية، فالقدرة على نكاح المسلمة كذلك، فإن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.وفيه أيضا بطلان فهم معنى ارقاق الولد، وأن ذلك مانع، وأن هذا موجود في نكاح الحرة الكتابية، فهذا تمام هذا النوع.والأصح أنه لا فرق بينهما، وأن القدرة على مثل الشيء كالقدرة على الشيء.الوجه الآخر في الجواب: أن هذه العمومات ما قصد بها تفصيل شرائط النكاح، من الشهادة والولاية، والخلو عن العدة، وإنما قصد بها الندب إلى أصل النكاح، فأما الشرائط فلا ذكر لها، والذي يطلق القول العام، لا يخطر له الشرط في نكاح الأمة.فأما إذا قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ} الآية. مع قوله: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}، فلابد وأن يكون قاصدا إبانة شرط، ولم يقصد به نزولا عن كلام عام، وإبانة وجه خاص، كان قوله هجرا ركيكا، فقصد التفرقة بين الحالتين ضروري في هذا الكلام، والتعرض للشرائط لا يظهر في العمومات التي ذكروها.فليفهم الفاهم هذا، فإنه مقطوع به، ولا يهتدي إليه إلا الموفقون المتعمقون في العلم.ومما يعارضون به ما قلناه، أنه تعالى قال: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}... قالوا:وذلك يجوز نكاح الأمة مع القدرة على مهر المشركة، والقادر على مهر المشركة، قادر على مثله في حق المسلمة، وهذا ركيك جدا.فإن المراد به: أنهم كانوا لا يعافون عن نكاح المشركات، ويعافون من نكاح الإماء خيفة إرقاق الولد، فأبان اللّه تعالى أن الأمة مع إفضاء نكاحها إلى رق الولد، خير من المشركة التي لا يجوز نكاحها قط، والأمة يجوز نكاحها في بعض الأحوال، فهذا تمام الرد على هؤلاء في محاولة المعارضة.وحكى القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي عن السلف مذاهبهم في هذه الآية وفق مذهبنا ثم قال: وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم قالوا: لا بأس أن يتزوج الحر المسلم الأمة، مع وجود الطول إلى حرة، من غير خشية العنت، ثم قال:هذا قول تجاوز فساده فساد ما يحتمل التأويل، لأنه لا محظور في كتاب اللّه تعالى إلا على الجهة التي أبيحت، ثم وجّه على نفسه سؤالا فقال:يمكن أن يقول ذلك على الاختيار لا على التحريم.فأجاب أنه قد بين موضع الاختيار لهم من موضع الحظر بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، فكان هذا موضع الاختيار، ولو كان الأول على الاختيار لهم لم يحتاجوا إلى اختيار ثان، فحيث جاز، وهو عند خوف العنت ذكر موضع الاختيار، فعند عدم الخوف، يستحيل أن يبقى الأمر على ذلك الاختيار.والذي ذكره كلام صحيح.وحكى الرازي هذا من كلامه أول كلامه، في أنه لا يحتمل التأويل ثم قال:وقد اختلف السلف فيه ولو كان فيه نص ما اختلفوا، نقل عن علي مثل ذلك، ولم يثبت ذلك الذي صح.ونقل إسماعيل القاضي عن علي أنه قال:لا ينبغي للحر أن يتزوج الأمة وهو يجد طولا ينكح به الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر.وعن ابن عباس أنه قال:من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الأمة.ثم الاحتجاج بالنص على وجهين:منه ما يستوي في درك معناه الخاص والعام، ويعلم ذلك بأوائل الأفهام، فهذا لا يختلف فيه، وما لا يعلم إلا بالارتياء والبحث، فهذا يجوز أن يختلف فيه، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا ثبت ذلك.ثم حكي عن داود الأصبهاني في حق إسماعيل شيئا، وذكر ما يدل على تهجينهما وسوء اعتقاده فيهما، وليس ذلك ببعيد منه، فإنه كان مكفرهما، لمخالفتهما له في الاعتزال ومذهب أهل البدعة والقدر، وقد شحن كتابه المصنف في أحكام القرآن بالرد على أهل السنة، وتسميتهم مرجئة ومجبرة، ويتجمل بالاعتزال ويتظاهر به، عليه وعليهم ما يستحقون.وذكر وجها آخر فقال: إن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة، لأن الضرورة ما يخاف فيها فساد النفس أو فساد عضو، وليس في عدم الطول ذلك، ولذلك لم يجز هذا العذر نكاح الأمة الكتابية عند الشافعي رضي اللّه عنه، ولا نكاح المشركة بالاتفاق، فإذا ثبت ذلك، استوى وجود هذا العذر وعدمه.وهذا يدل على جهله بأوضاع الأصول وقواعد الأحكام، فإن الذي جوز لمكان الحاجة، ينقسم أقساما ويترتب على أبحاث مختلفة.فمنها ما يعتبر فيه غاية الحاجة.ومنها ما يعتبر فيه دون ذلك، كالتيمم عند عدم الماء.ومنها ما يعتبر فيه مظنة الحاجة لا صورتها.ومنها ما يعتبر فيه ضرر ظاهر، وإن لم يفض إلى هلاك نفس أو فساد عضو، كالقيام في الصلاة، والصيام في المرض، والجمع بين الصلاتين، فيجوز أن يجعل خوف العنت داخلا في أقسام الحاجات، وإن كان الأمر في الكتابية الأمة والمجوسية أعظم من ذلك، فلا يحل بهذا النسب.
|